فصل: مطلب أول من سن النداء إلى الطعام وملاذ الدنيا وتمني الموت وقبح الانتحار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بعد أن كان ينظر إليه بأنه عبد قيمته ثلاثون درهما، وقد اشتراه العزيز بمايتي درهم أي بعشرين دينارا وكانوا يحترمونه لعلمه وأدبه ومروءته وأخلاقه وكثرة عطفه على الفقراء ولطفه بالعامة وإكرامه الخاصّة بما هم أهله، لذلك تشرب حبه في قلوبهم لتلك المحاسن العالية والمكارم السامية.
أما وقد علموا الآن أنه من بيت إبراهيم عليه السلام الذائع الصيت الذي يحبه أهل السماء والأرض بصورة لم يبق معها شك أو شبهة، وقد شاع هذا لدى أعاليهم وأدانيهم، فقد ازداد وقاره وتبجيله وتعظيمه وهيبته بأعينهم وقلوبهم، لأن الحاكم إذا كان عريقا في الحكم يعظّم في ثلاث جهات لأصالته ولتوليته ولعدله، وهناك خصلة رابعة هي كمال أخلاقه وعفته.
قالوا ثم رحل السيد يعقوب وآله إلى مصر وهم كالجيش العظيم وتهيأ يوسف لاستقبالهم لما علم بخروجهم فخرج هو وفتيانه ووجهاء مصر وقادتها إلى فناء المدينة لملاقاتهم، وأخرج أهله وأولاده، وكان عدد المستقبلين أربعة آلاف نسمة عدا أعوام أهل المدينة وسوقتهم، وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك رئيس الوزراء لأنه بعد أن ولاه الملك وزارة المالية ودخلت أعوام الغلاء، ورأى تدبيره وعلو شأنه فوضه بإدارة الملك كله وجعله نائبا عنه.
قال تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا} فناء المدينة: {عَلى يُوسُفَ} وحاشية المستقبلين، وكان آل يعقوب ثلاثا وسبعين نسمة، عدا الخدم والرعاة والرحالة والمرضعات، وكان يعقوب أمامهم وعند ما أشرف عليهم ترجل، وأقام يهوذا عن يمينه، وروبيل عن يساره يتوكا عليهم، وشمعون وبقية أولاده وأحفاده وراءه صفوفا، فتقدم إليه يوسف، وهذا المراد بقوله تعالى: {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} فضمهما لنفسه وعانقهما وصافح الباقين، وبعد أن صافحهم الوزراء والأمراء والوجهاء والقادة {قالَ} عليه السلام لأهله: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ 99} على أنفسكم وأموالكم وأنعامكم دون جواز لأن الكنعانين كانوا لا يدخلون مصر إلا بجواز من ملوكها، لأنها حكومة على حدة، وآمنين أيضا من مخاوف القحط وهذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشروع فيه للتيمن والتبرك، وهو داخل في الأمن لا في الدخول الثاني إلى المدينة والأول لفنائها، والثالث لقصر الملك، قالوا ثم تقدم آل يعقوب بموكب عظيم وسار وراءهم موكب الملك والناس وراءهما حتى دخلوا القصر، وهو معنى قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} السرير الخاص بالملك: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} أبواه وأخواته والناس وراءهما، وهذه تحيتهم إذ ذاك وهو خضوع لحد الركوع كما هي تحية الأعاجم الآن، وليس المراد من السجود هنا وضع الجبهة على الأرض، واللّه أعلم، لأنه تحية العباد لرب العباد خاصة، فلم يكن لأحد قبل، ولا يكون لأحد بعد، وهذا وان كان زعم البعض غير جائز لأن اخوته الأنبياء مثله وأكبر منه سنا وفضلا عن أبويه، إلا أنه يتصور ذلك الزعم إذا كان أمرهم بذلك، أما وانه لم يأمرهم فقد انقضى ذلك الزعم، وقد وقع منهم ذلك بتقدير اللّه تعالى تحقيقا لرؤياه، فلا يقال كيف أجازه وقبله وكيف أقره ورضي به؟ مما يدل على هذا قوله عز قوله حكاية عنه: {وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ} سجودكم هذا والحوادث التي تلتها: {قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا} في اليقظة قالوا وكان بين الرؤيا وتصديقها أربعون سنة كما مر في الآيتين 53/ 7، لأن الرؤيا في الثانية عشرة والسجود في الاثنين والخمسين، وقيل أكثر حتى أوصلها بعضهم إلى ثمانين سنة، راجع الآية 93 في تفسير الإمام الرازي وكلها أقوال، إذ لم يذكر اللّه ولا رسوله شيئا عن ذلك: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ولم يقل من البئر مع أنه أصعب وأشد من السجن لئلا يخجل أخوته لكريم خلقه وعظيم أدبه معهم، وجليل احترامه لهم، وكثير لطفه بهم، وزيادة عطفه عليهم، ولأن خروجه من الجب أعقبه العبودية وخروجه من السجن أورثه الملوكية: {وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} سمي سكان البادية بدوا كما سمي سكان الحاضرة أي المدن حضرا: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}.

.مطلب نسبة النزغ إلى الشيطان مجاز وسبب بلاء يعقوب وإتيان الفرج وحسن الموت:

أضاف عليه السلام الإحسان إلى اللّه تعالى والنزغ إلى الشيطان على طريق المجاز وكمال الأدب مع اللّه تعالى، والا في الحقيقة الكل من اللّه القائل: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية 78 من سورة النساء، لأنه جل شأنه هو الفاعل المطلق المختار فلا يقع في الكون شيء ولا يرفع منه شيء إلا بعلمه وقضائه وقدره وإرادته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعليه فلا وجه لاستدلال المبتدعة في هذه الآية من بطلان الجبر، لأنهم يقولون لولا أن يوسف يعلم أن النزغ من فعل اللّه لما أضافه إلى الشيطان، بل لأضافه للّه، كما أضاف الإحسان إليه، وهذا باطل، لأنه يكون حينئذ في الكون فاعلان، ولا فاعل في الحقيقة إلا اللّه وحده قال تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا} راجع الآية 22 من سورة الأنبياء الآتية، ولهذا وبخ اللّه تعالى الناسبين لغيره بقوله بعد تلك الآية: {فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} فقد نبههم جلت عظمته بأن ليس للشيطان مدخل فيه إلا إلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين، وهذا أيضا باقداره تعالى إياه وتسليطه على بعض خلقه، فظهر أن الكل من عند اللّه، راجع الآية 12 من سورة يونس المارة تجد هذا البحث، وله صلة في الآية 35 من سورة فصلت الآتية فراجعه: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ} من التدبير وحسن الاستخراج وتسهيل الأمور: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بمصالح عباده يجريها حسب إرادته: {الْحَكِيمُ 100} في جميع أفعاله، فهو الذي يهيء الأسباب ويؤخر الآمال إلى الآجال كما في هذه القضية، فإن أولها كان هما وغما وحزنا وآخرها غدا فرجا وسرورا وانشراحا حتى بلغت أعلى مراتب الدنيا والدين، ولما تم ليوسف الأمر على ما أراده له اللّه، تحدث بنعمة ربه فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} من هنا تبعيضيّة لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا وبعض علم التعبير، وكثير من أحاديث اللّه لا يعلمها هو ولا غيره، قال هذا عليه السلام على طريق إظهار الشكر لربه لذلك طفق يعددها على نفسه، وهذا قبل وفاته بأسبوع كما قيل، إذ انتهت القصة بختام الآية المارة عد 100، يا: {فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ 101} من آبائي قالوا وأقام يعقوب وآله بعد التلاقي في مصر أربعا وعشرين سنة في أهنأ عيش وأرغد بال وأحسن حال، وقد حضرت يعقوب الوفاة فأوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده إلى الأرض المقدسة ويدفنه مع إسحاق وإبراهيم، فلما توفي وضعه في تابوت من ساج وحمله إلى الشام، فوافق موت أخيه العاص توءمه الذي خرج قبله، وتلاه هو، أي أن يعقوب خرج عقبه ولذلك سميا بهذين الاسمين فأخذه معه ودفنهما في قبر واحد، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة، وعمر يوسف بعدهما ثلاثا وعشرين سنة، ورجع إلى مصر وسأل اللّه حسن الخاتمة وقيل عاش عليه السلام بعد أبيه وعمه ستين سنة أو أكثر على ما قيل، وهما ابن مائة واثنين وأربعين سنة، ووضع في صندوق من رخام، ودفن في نيل مصر، لأن أهله والمصريين تشاحوا في جسمه المبارك كل يريد دفنه في جبانته طلبا لبركته، ثم اتفقوا على دفنه في وسط النيل كي ينال بركته كل من شرب منه من الإنسان والحيوان والنبات والأرض بسبب جريانه على تابوته، فلا يختص به واحد دون آخر، وبقي تابوت يوسف بالنيل وعمت بركته فيه، ولم يسمى المبارك إلا بعد وضع تابوته فيه كما سيأتي بيانه، وكيفية العثور عليه في الآية 50 من سورة البقرة، أي زمن موسى عليه السلام إذ أخرجه من النيل عند خروج بني إسرائيل ودفنه مع آبائه في الأرض المقدسة.
قالوا وانما ابتلى اللّه يعقوب بهذا البلاء، لأنه ذبح شاة فقام على بابه مسكين صاثم فلم يطعمه منها، أو انه شوى عناقا وأكله ولم يطعم جاره منه بعد أن شم ريح قترها، أو أنه ذبح عجلا بين يدي أمه وهي تخور عليه فلم يرحمها.
وهذه روايات لو فرض صحتها فلا تقدح بعصمة الأنبياء لانها ليست بسيئات، إلا أنهم عدوها سيئات إذ يطلب من الأنبياء أعمالا بحسب علو تاجهم وشريف مراتبهم، وكل منهم امتحن وصبر وفوض أمره إلى اللّه، قالوا والسبب في إتيان الفرج هو أن يعقوب عليه السلام كان له أخ في اللّه فقال له ما الذي أذهب نور بصرك وقوس ظهرك ولم تبلغ في السن ما بلغه أبواك؟ قال البكاء على يوسف والحزن على بنيامين، فأتاه جبريل فقال له إن اللّه يقرؤك السلام ويقول لك أما تستحي أن تشكوني إلى غيري فقال إنما أشكو بثّي وحزني إلى اللّه، وانما رجل سألني فأجبته لا على طريق الشكوى، فقال جبريل اللّه أعلم بما تشكو. فقال يعقوب يا رب تلك خطيئة أخطأتها فاغفرها لي، فقال غفرتها لك، قال يا رب أردد علي ريحانتي ثم اصنع بي ما شئت، فقال جبريل ان اللّه يقرئك السلام ويقول أبشر فو عزّتي وجلالي لو كانا ميتين لنشرتهما لك أتدري لم وحدت عليك؟ قال لا، قال لأنكم ذبحتم شاة فقام على بابكم فلان المسكين وهو صائم فلم تطعموه منها شيئا، وأن أحب عبادي إلي الأنبياء ثم المساكين، اصنع طعاما وادع إليه المساكين، فصنع طعاما ثم نادى من كان جائعا فليفطر عند آل يعقوب.

.مطلب أول من سن النداء إلى الطعام وملاذ الدنيا وتمني الموت وقبح الانتحار:

وصار بعد ذلك إذا تغدى أو تعشى نادى مناديه من أراد أن يتغدى أو يتعشى فليأت آل يعقوب فهو أول من سن النداء للطعام وجدد هذه السنة السيد هاشم جدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ولم يشاركه في هذه الخصلة أحد من العرب، وفي عصرنا هذا أحباها الشيخ جدعان بن مهيد من عشائر عنزة، أما الكرم المطلق فيكثر في العرب وغيرهم ممن خالطهم، بارك اللّه فيهم، وأدام الكرام وأسبل عليهم ستره ونشر عليهم خيره، ودرّ عليهم من بركاته ووفقهم لما يحبه ويرضاه.
وهنا بحث آخر وهو أنه عليه السلام طلب الوفاة قال قتادة لم يسأل نبي من الأنبياء الوفاة غير يوسف عليه السلام، وأنه توفى بعد هذا التمني بسبعة أيام، وذلك لأنه بعد أن تم له ملك مضر وحواليها وبلغ كل ما تمناه البشر الكامل لاسيما بعد جمع شمله مع أبيه وأهله، وهو يعلم أن مصير الدنيا بما فيها إلى الفناء لا محالة، ولو عمر ما عمر تاقت نفسه الطاهرة إلى الملك الدائم بجوار ربه الكريم، ولا يبعد بالرجل الكامل أن يتمنى ذلك رغبة بالنعيم الذي لا يزول، ولا يمنع من هذا قوله صلّى اللّه عليه وسلم لا يتمنى أحدكم الموت لأمر نزل به، وفي رواية لا تمنوا الموت فإن هول المطلع عظيم وان من سعادة المرء أن يطول عمره ويحسن عمله، وعليه فإن الموت عند وجود الضرر ونزول البلاء مكروه، والصبر عليه أولى، لأنه عليه السلام لم يتمنّه إبان شدته عند ما كان في الجبّ أو السجن، بل تمنّاه بعد ما تم له كل شيء تتوق النفس إليه، وفيه معنى آخر وهو محبة لقاء اللّه تعالى، فقد روى الشيخان عن عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه.
وقد تمناه إلياس عليه السلام كما سيأتي في قصته في الآية 123 من الصافات الآتية، وروى البخاري في صحيحه حديث عدم تمني الموت، وهو تمناه رضي اللّه عنه، وذلك أن أهل بلدته اختلفوا فيما بينهم حينما رجع إلى بلده بعد غيابه عنها بسبب طلب العلم، فكان منهم من يريد دخوله، ومنهم من لا يريده، ولما رأى خلافهم يؤدي إلى المقاتلة فيما بينهم، ويسبب موت بعضهم، تمنى الموت، فتوفاه اللّه حالا خشية حصول الفتنة، والإفساد بين أهل بلدته، وهذا لا بأس به أيضا، لهذه الغاية، أما تمنيه للفاقة والفقر وما ضاهاها من البلاء فلا يجوز، إذ عليه أن يلجأ إلى اللّه وينقي محارمه ونواهيه، ويسأله الفرج، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ولو تأمل هذه الآية 4 من سورة الطلاق الذين ينتحرون والعياذ باللّه لضيق ذات يدهم أو لأمر آخر داهمهم أو لمرض مزمن ألم بهم لما انتحروا وعجلوا بأنفسهم إلى النار، فعلى الرجل الذي يمتحن بمثل ذلك أن يطلب من اللّه تعالى العافية فهو أحسن وأجدر بالعاقل، ويعلم أن اللّه قادر على معافاته مما هو فيه فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهو الذي يكشف السوء عن عباده، وما قيل انه عليه السلام كيف يتمنى اللحاق بالصالحين والصلاح أول درجات المؤمنين، وهو من الأنبياء مردود، لأن القصد بالصالحين آباؤه عليهم السلام، وكلهم أنبياء لا مطلق الصالحين كما جرى عليه بعض المفسرين الذي فتح طريقا لمثل هؤلاء المعترضين، على أنه قد يكون لهضم النفس على طريق استغفار الأنبياء من بعض ما يقع منهم بالنسبة لدرجتهم.